فصل: تفسير الآيات (43- 45):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (43- 45):

قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أخبر أنهم أبوا الإيمان بالقرآن، المخبر بالغيب من أمر الرحمن الذي هدت إليه العقول، وشاهدت آثاره العيون، في هذا الكلام المعجز، فتظافرت على ما أخبرت به أدلة السمع والبصر والعقل، وختم بأنهم آمنوا بالجن غيبًا وعبدوهم من دون الله بما لم يدع إليه عقل ولا نفل، وصدقوهم من الإخبار بما إن صدقوا في شيء منه خلطوا معه أكثر من مائة كذبة، وسلب أعظم من ادعوا أنهم استندوا إليه النفع والضر، وأسند تعذيبهم إلى تكذيبهم، أتبعه الإخبار بأنهم لازموا الإصرار على ذلك الكفر والتكذيب بما كله صدق وحكم فقال: {وإذا تتلى} أي في وقت من الأوقات من أيّ تال كان {عليهم} أي خاصة لم يشركهم غيرهم ليقولوا: إنه المقصود بالتلاوة، فلا يلزمهم الاستماع {آياتنا} حال كونها {بينات} ما قالت شيئًا إلا ظهرت حقيته {قالوا} أي على الفور من غير تأمل لما حملهم على ذلك من حظ النفس.
ولما كان المستكبرون يرون ما للرسالة من الظهور، وللرسول من القبول، وأن أتباعهم قد ظهر لهم ذلك، فمالوا إليه بكلياتهم، أكده قولهم: {ما هذا} أي التالي لها على ما فيه من السمت المعلم بأنه أصدق الخلق وأعلاهم همة وأبينهم نصيحة {إلا رجل} أي مع كونه واحدًا هو مثل واحد من رجالكم، وتزيدون عليه أنتم بالكثرة، ولم يسندوا الفعل إليهم نفيًا للغرض عن أنفسهم وإلهابًا للمخاطبين فقالوا: {يريد أن يصدكم} أي بهذا الذي يتلوه {عما كان} دائمًا {يعبد آباؤكم} أي لا قصد له إلا ذلك لتكونوا له أتباعًا، وألهبوا السامعين بتصوير آبائهم بذكر كان والفعل المضارع ملازمين للعبادة ليثبتوا على كفرهم بما لا دليل عليه ولا شبهة ولا داع سوى التقليد.
ولما كانت أدلة الكتاب واضحة، خافوا عاقبتها في قبول الاتباع لها، فجزموا بأنها كذب ليوقفوهم بذلك، فحكى ذلك عنهم سبحانه بقوله: {وقالوا ما هذا} أي القرآن {إلا إفك} أي كذب مصروف عن وجهه {مفترى} أي متعمد ما فيه من الصرف.
ولما كان فيه ما لا يشك أحد في حقيته، لبسوا عليهم بأنه خيال يوشك أن ينكشف إيقافًا لهم إلى وقت ما، فقال تعالى إخبارًا عنهم: {وقال} ولما كان الحق قد يخفى، ولم يقيده بالبيان كما فعل في الآيات، أظهر موضع الإضمار بيانًا للوصف الحامل لهم على ذلك القول وهو التدليس، فقال: {الذين كفروا} أي ستروا ما دلت عليه العقول من حقية القرآن، {للحق} أي الذي لا أثبت منه باعتبار كمال الحقية فيه {لما جاءهم} أي من غير أن يمهلوا النظر ولا تدبر ليقال إن الداعي لهم إلى ما قالوا نوه شبهة عرضت لهم، بل أظهروا بالمسارعة إلى الطعن أنه مما لا يتوقف فيه، وأكدوا لما تقدم من خوفهم على أتباعهم ليخيلوهم فقالوا: {إن} أي ما {هذا} أي الثابت الذي لا يكون شيء أثبت منه {إلا سحر} أي خيال لا حقيقة له {مبين} أي ظاهر العوار جدًا، فهو ينادي على نفسه بذلك، فلا تغتروا بما فيه مما تميل النفوس ويؤثر في القلوب، ولقد انصدّ لعمري بهذا التلبيس- مع أن في نسبتهم له إلى السحر الاعتراف بالعجز- بشر كثير برهة حتى هدى الله بعضهم، وتمادى بالآخرين الأمر حتى ماتوا على ضلالهم، مع أنه كان ينبغي لكل من رأى مبادرتهم وتحرقهم أن يعرف أنهم متغرضون، لم يحملهم على ذلك إلا الحظوظ النفسانية، والعلق الشهوانية، قال الطفيل ابن عمرو الدوسي ذو النور رضى الله عنه: لقد اكثروا عليّ في أمره حتى حشوت في أذنيّ الكرسف خوفًا من أن يخلص إلى شيء من كلامه فيفتنني، ثم أراد الله بي الخير فقلت: واثكل أمي إني والله لبيب عاقل شاعر، ولي معرفة بتمييز غث الكلام من سمينه، فما لي لا أسمع منه، فإن كان حقًا تبعته، وإن كان باطلًا كنت منه على بصيرة- أو كما قال، قال: فقصدت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: اعرض عليّ ما جئت به، فلما عرضه عليّ بأبي هو وأمي ما سمعت قولًا قط أحسن منه ولا أمرًا أعدل منه فما توقفت في أن أسلمت، ثم سأل النبي- صلى الله عليه وسلم- أن يدعو الله له أن يعطيه آية تعينه على قومه، فلما أشرف على حاضر قومه كان له نور في جبهته، فخشي أن يظنوا أنها مثلة، فدعا بتحويله، فتحول في طرف سوطه، فأعانه الله على قومه فأسلموا.
ولما بارزوا بهذا القول من غير أثارة من علم ولا خبر من سمع، بين ذلك معجبًا من شأنهم، موضحًا لعنادهم، بقوله مؤكدًا إشارة إلى أن ما يجترئون عليه من الأقوال التي لا سند لها إلا التقليد لا يكون إلا عن كتاب أو رسول: {وما} أي قالوا ذلك والحال أنا ما {آتيناهم} أي هؤلاء العرب أصلًا لأنه لم ينزل عليهم قط قبل القرآن كتاب، وعبر بمظهر العظمة إشارة إلى أن هذا مقام خطر وموطن وعر جدًا لأنه أصل الدين، فلا يقنع فيه إلا بأمر عظيم، وأكد هذا المعنى بقوله: {من كتب} بصيغة الجمع مع تأكيد النفي بالجار قبل كتابك الجامع {يدرسونها} أي يجددون دراستها في كل حين، فهي متظاهرة الدلالة باجتماعها على معنى واحد متواترة عندهم لا شبهة في أمرها ليكون ذلك سببًا للطعن في القرآن إذا خالف تلك الكتب {وما أرسلنا} أي إرسالًا لا شبهة فيه لمناسبته لما لنا من العظمة {إليهم} أي خاصة، بمعنى أن ذلك الرسول مأمور بهم باعيانهم، فهم مقصودون بالذات، لا أنهم داخلون في عموم، أو مصقودون من باب الأمر بالمعروف في جميع الزمان الذي {قبلك} أي من قبل رسالتك الجامعة لكل رسالة ليخرج إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام فإنهما كانا في بعض الزمان الماضي، أو أن المراد في الفترة بعد عيسى عليه السلام كما تقدم في السجدة نقله عن ابن عباس ومقاتل، ويجوز أن يراد بعد إسماعيل عليه السلام لأن عيسى عليه السلام- وإن أرسل إلى العرب رسله- لم يكن مرسلًا إلا إلى قومه، وإرساله إلى غيرهم إنما هو من باب الأمر بالمعروف، وشعيب عليه السلام إنما كانت رسالته إلى طائفة أو أثنتين منهم وقد يقال: الذي يدل عليه استغراق جميع الزمان الماضي بالتجريد عن الخافض أن المراد إنما هو نفي الإرسال بهذا الباطل الذي إدعوه لا مطلق الإرسال، وأكد النفي بقوله: {من نذير} أي ليكون عندهم قول منه يغبر في وجه القرآن، فيكون حاملًا لهم على الطعن.
ولما نفى موجب الطعن، ذكر المانع الموجب للإذعان فقال: {وكذب} أي فعلوا ما فعلوا، الحال أنه قد كذب {الذين من قبلهم} أي من قوم نوح ومن بعدهم بادروا إلى ما بادر إليه هؤلاء، لأن التكذيب كان في طباعهم لما عندهم من الجلافة والكبر {وما بلغوا} أي هؤلاء {معشار ما آتيناهم} أي عشرًا صغيرًا مما آتينا أولئك من القوة في الأبدان والأموال والمكنة في كل شيء من العقول وطول الأعمار والخلو من الشواغل {فكذبوا} أي بسبب ما طبعوا عليه من العناد، وأفرد الضمير كما هو حقه ونصًا على أن النون فيما مضى للعظمة لا للجمع دفعًا لتعنت متعنت فقال: {رسلي}.
ولما كان اجتراؤهم على الرسل سبب إهلاكهم على أوجه عجيبة، صارت مثلًا مضروبًا باقيًا إلى يوم القيامة ولم يغن عنهم في دفع النقم ما بسط لهم من النعم، كان موضع أن يقال لرائيه أو لسامعه: {فكيف كان نكير} أي فيما كان له من الشدة التي هي كالجبلة أي إنكاري على المكذبين لرسلي، ليكون السؤال تنبيهًا لهذا المسئول وداعيًا له إلى الإذعان خوفًا من أن يحل به ما حل بهم أن فعل مثل ما فعلهم سواء كان الإنكار في أدنى الوجوه كما أوقعناه سببًا من تعطيل الأسباب، أو أعلاها كما أنزلنا بقوم نوح عليه السلام ومن شاكلهم وصب العذاب والاستئصال الوحيّ بالمصاب على ما أشارت إليه قراءتا حذف الياء وإثباتها. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤكُمْ}.
إظهار لفساد اعتقادهم واشتداد عنادهم حيث تبين أن أعلى من يعبدونه وهم الملائكة لا يتأهل للعبادة لذواتهم كما قالوا: {سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا} [سبأ: 41] أي لا أهلية لنا إلا لعبادتك من دونهم أي لا أهلية لنا لأن نكون معبودين لهم ولا لنفع أو ضر كما قال تعالى: {فاليوم لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعًا وَلاَ ضَرًّا} [سبأ: 42] ثم مع هذا كله إذا قال لهم النبي عليه السلام كلامًا من التوحيد وتلا عليهم آيات الله الدالة عليه، فإن لله في كل شيء آيات دالة على وحدانيته أنكروها وقالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم يعني يعارضون البرهان بالتقليد {وَقَالُواْ مَا هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى} وهو يحتمل وجوهًا أحدها: أن يكون المراد أن القول بالوحدانية {إِفْكٌ مُّفْتَرًى} ويدل عليه هو أن الموحد كان يقول في حق المشرك إنه يأفك كما قال تعالى في حقهم: {اءفْكًا ءالِهَةً دُونَ الله تُرِيدُونَ} [الصافات: 86] وكما قالوا هم للرسول: {أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلهتنا} [الأحقاف: 22] وثانيها: أن يكون المراد {مَا هذا إِلاَّ إِفْكٌ} أي القرآن إفك وعلى الأول يكون قوله: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} إشارة إلى القرآن وعلى الثاني يكون إشارة إلى ما أتى به من المعجزات وعلى الوجهين فقوله تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ} بدلًا عن أن يقول وقالوا للحق هو أن إنكار التوحيد كان مختصًا بالمشركين، وأما إنكار القرآن والمعجزات فقد كان متفقًا عليه بين المشركين وأهل الكتاب فقال تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقّ} على وجه العموم.
{وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44)}.
وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير تأكيد لبيان تقليدهم يعني يقولون عندما تتلى عليهم الآيات البينات هذا رجل كاذب وقولهم: {إِفْكٌ مُّفْتَرًى} من غير برهان ولا كتاب أنزل عليهم ولا رسول أرسل إليهم، فالآيات البينات لا تعارض إلا بالبراهين العقلية، ولم يأتوا بها أو بالتقلبات وما عندهم كتاب ولا رسول غيرك، والنقل المعتبر آيات من كتاب الله أو خبر رسول الله، ثم بين أنهم كالذين من قبلهم كذبوا مثل عاد وثمود، وقوله تعالى: {وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَا ءاتيناهم} قال المفسرون معناه: وما بلغ هؤلاء المشركون معشار ما آتينا المتقدمين من القوة والنعمة وطول العمر، ثم إن الله أخذهم وما نفعتهم قوتهم، فكيف حال هؤلاء الضعفاء، وعندي أنه يحتمل ذلك وجهًا آخر وهو أن يقال المراد: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَا ءاتيناهم} أي الذين من قبلهم ما بلغوا معشار ما آتينا قوم محمد من البيان والبرهان، وذلك لأن كتاب محمد عليه السلام أكمل من سائر الكتب وأوضح، ومحمد عليه السلام أفضل من جميع الرسل وأفصح، وبرهانه أوفى، وبيانه أشفى، ثم إن المتقدمين لما كذبوا بما جاءهم من الكتب وبمن أتاهم من الرسل أنكر عليهم وكيف لا ينكر عليهم، وقد كذبوا بأفصح الرسل، وأوضح السبل، يؤيد ما ذكرنا من المعنى قوله تعالى: {وَمَا ءاتيناهم مّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا} يعني غير القرآن ما آتيناهم كتابًا وما أرسنا إليهم قبلك من نذير، فلما كان المؤتى في الآية الأولى هو الكتاب، فحمل الإيتاء في الآية الثانية على إيتاء الكتاب أولى. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} يعني القرآن.
{قَالُواْ مَا هذا إِلاَّ رَجُلٌ} يعنون محمدًا صلى الله عليه وسلم.
{يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤكُمْ} أي أسلافكم من الآلهة التي كانوا يعبدونها.
{وَقَالُواْ مَا هاذا إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى} يعنون القرآن؛ أي ما هو إلا كذب مختلَق.
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هاذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} فتارةً قالوا سحر، وتارةً قالوا إفك.
ويحتمل أن يكون منهم من قال سحر ومنهم من قال إفك.
قوله تعالى: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا} أي لم يقرءوا في كتاب أوتُوه بطلانَ ما جئتَ به، ولا سمعوه من رسول بُعث إليهم، كما قال: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} [الزخرف: 21] فليس لتكذيبهم وجه يتشبّث به ولا شبهة متعلق كما يقول أهل الكتاب وإن كانوا مبطلين: نحن أهل كتاب وشرائع ومستندون إلى رسل من رسل الله، ثم توعّدهم على تكذيبهم بقوله الحق: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ} أي كذب قبلهم أقوام كانوا أشدّ من هؤلاء بطشًا وأكثرَ أموالًا وأولادًا وأوسع عيشًا، فأهلكتهم كثمود وعاد.
{وَمَا بَلَغُواْ} أي ما بلغ أهل مكة {مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} تلك الأمم.
والمعشار والعُشر سواء، لغتان.
وقيل: المعشار عشر العشر.
الجوهري: ومعشار الشيء عشره، ولا يقولون هذا في شيء سوى العشر.
وقيل: ما بلغ الذين من قبلهم معشار شكر ما أعطيناهم؛ حكاه النقاش.
وقيل: ما أعطى الله تعالى من قبلهم معشار ما أعطاهم من العلم والبيان والحجة والبرهان.
قال ابن عباس: فليس أمة أعلمَ من أمته، ولا كتاب أبين من كتابه.
وقيل: المعشار هو عشر العشير، والعشير هو عشر العشر فيكون جزءًا من ألف جزء.
الماوردي: وهو الأظهر، لأن المراد به المبالغة في التقليل.
{فَكَذَّبُواْ رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي عقابي في الأمم، وفيه محذوف وتقديره: فأهلكناهم فكيف كان نكيري. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيّنَاتٍ}.
بيان لبعضٍ آخرَ من كفرانِهم أي إذا تُتلى عليهم بلسانِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ آياتُنا النَّاطقةُ بحقِّيةِ التَّوحيدِ وبُطلان الشِّركِ {قَالُواْ مَا هذا} يعنون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيّنَاتٍ قَالُواْ مَا هذا إِلاَّ} فيستتبعكم بما يستدعيِه من غيرِ أنْ يكونَ هناك دينٌ إلهيٌّ، وإضافة الآباء إلى المخاطَبين لا إلى أنفسِهم لتحريكِ عرقِ العصبيةِ منهم مبالغةً في تقريرِهم على الشِّركِ وتنفيرِهم عن التَّوحيد {وَقَالُواْ مَا هذا} يعنون القرآنَ الكريمَ {إِلاَّ إِفْكٌ} أي كلام مصروفٌ عن وجهه لا مصداق له في الواقع {مُّفْتَرًى} بإسنادِه إلى الله تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقّ} أي لأمرِ النبوَّةِ أو الإسلامِ أو القرآن على أنَّ العطفَ لاختلافِ العُنوان بأنْ يُراد بالأولِ معناهُ وبالثَّاني نظمَه المعجزَ {لَمَّا جَاءهُمْ} من غيرِ تدبُّرٍ ولا تأمُّلٍ فيه {إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} ظاهرٌ سحريّتُه وفي تكرير الفعلِ والتَّصريحِ بذكر الكفرةِ وما في الَّلامينِ من الإشارةِ إلى القائلينَ والمقولِ فيهِ وما في لمّا من المسارعةِ إلى البتِّ بهذا القولِ الباطلِ إنكارٌ عظيمٌ له وتعجيبٌ بليغٌ منه.
{وَمَا ءاتيناهم مّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا} فيها دليلٌ على صحَّةِ الإشراكِ كما في قولِه تعالى: {أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سلطانا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ} وقولِه تعالى: {أَمْ ءاتيناهم كتابا مّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} وقُرىء يدرسُونها ويدَّرسونها بتشديدِ الدَّالِ يفتعلون من الدَّرسِ.
{وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مّن نَّذِيرٍ} يدعُوهم إليه وينذرُهم بالعقابِ إن لم يُشركوا وقد بان من قبلُ أنْ لا وجهَ له بوجهٍ من الوجوهِ فمن أينَ ذهبُوا هذا المذهبَ الزَّائغَ، وهذا غايةُ تجهيلٍ لهم وتسفيهٍ لرأيهم ثمَّ هدَّدهم بقولِه تعالى: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ} من الأممِ المتقدِّمة والقُرون الخاليةِ كما كذَّبوا.
{وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَا ءاتيناهم} أي ما بلغَ هؤلاء عشرَ ما آتينا أولئكَ من القوَّة وطولِ العمر وكثرةِ المالِ أو ما بلغ أولئك عشرَ ما آتينا هؤلاء من البيِّناتِ والهُدى {فَكَذَّبُواْ رُسُلِى} عطف على كذَّب الذينَ الخ بطريقِ التَّفصيلِ والتَّفسيرِ كقولِه تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا} الخ {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي إنكارِي لهم بالتَّدميرِ فليحذَرْ هؤلاء من مثلِ ذلك. اهـ.